في بلادنا السعيدة، حين تصدر براءتك من المحكمة، لا تفرح كثيرا … لا تبتسم … لا ترفع يدك للسماء شكرا … لأن النيابة العامة تراك، تراقبك، تدون في محضر سري: “ما زال الأمل قائما لإدانته … سنستأنف، وسنطعن، وسنقلب عليه الحياة جحيما … باسم القانون طبعا!
النيابة العامة عندنا لا تمثل الحق العام فقط، بل تمثل أحيانا حق الحقد، والانتقام القانوني المشروع، إذا نطقت المحكمة بكلمة “براءة”، تشعر وكأن النيابة أُصيبت بذبحة صدرية، فتنهض فورا وتقول: “نستأنف الحكم!”، لا دليل جديد، لا خطأ قانوني، فقط لأن البراءة … أهانت كبرياءها.
وفي محكمة الاستئناف، حين يؤكد الحكم بالبراءة مرة أخرى، نقول: الحمد لله، انتهى الكابوس، لكن لا يا متهم، النيابة لم تشف بعد، تخرج أوراقها، تضبط نظارتها القانونية، وتقول بصوت يشبه صوت تاجر خاسر في بورصة الأخلاق: “سنلجأ إلى النقض … من أجل العدالة طبعا!
هل هي العدالة؟ أم إدمان قضائي على الإدانة؟
يبدو أن بعض ممثلي النيابة يعتقدون أن البراءة ليست قرارا حقا دستوريا وقضائيا بل عيبا أخلاقيا، لا يغتفر، ولا يترك دون طعن، حتى لو صدر عن ثلاث درجات قضائية، وحتى لو قال القاضي: “هذا المتهم بريء مثل رضيع خرج للتو من حضن أمه.”
لكن النيابة لا تؤمن بالأمهات … تؤمن فقط بالمحاضر!
إذن أين المشكل؟ في النظام؟ في السلطة؟ أم في ذهنية ترى المتهم مجرما حتى لو اغتسل بماء زمزم وخرج له حكم براءة موقع من السماء؟
نحن لا نطلب من النيابة أن تعانق المتهم وتمنحه باقة ورد، ولكن فقط أن تتقبل فكرة أن الإنسان قد يكون بريئا دون أن يكون ذلك خطأً في المنظومة.
وحتى لا نظلم النيابة كثيرا، ربما تحتاج فقط إلى جلسات علاج نفسي جماعي، مع مقولة على الجدار مكتوبة بخط جميل:
اهدؤوا قليلا … البراءة ليست جريمة
Sorry Comments are closed