في مشهد يعكس بوضوح حالة التداخل الخطير بين السلط في المغرب، أقدم وزير العدل على رفع دعوى قضائية ضد الصحفي حميد المهداوي، ليس بصفته كمواطن متضرر، كما يفرض المنطق القانوني والدستوري، بل بصفته الوزارية، مستعملا سلطته الرسمية كأداة في مواجهة خصومة شخصية… الأسوأ من ذلك، أن القضاء لم يكتف بقبول هذه الشكاية كما هي، بل أصدر حكما ابتدائيا ضد الصحفي، ثم أيده استئنافيا، دون أن يطرح أي سؤال حول قانونية استعمال الصفة الوزارية في هذا النوع من القضايا.!
هذا السلوك، الذي لا يمكن وصفه إلا بالتمادي في استغلال المنصب العمومي، يضرب في العمق أحد أهم مبادئ دولة القانون، وهو مبدأ فصل السلط المنصوص عليه صراحة في الفصل 107 من دستور المملكة، الذي يقول: “السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.” فهل يمكن الحديث عن استقلال حقيقي للسلطة القضائية، حين يتعلق الأمر بشكاية قدمت باسم “وزير العدل”، ثم وجدت طريقها السلس إلى الإدانة، وكأن الصفة تمنح للشاكي امتيازا خفيا داخل ردهات المحاكم؟
الأدهى أن الشكاية تستند إلى الفصل 447-2 من القانون الجنائي المغربي، الذي يجرم المساس بالحياة الخاصة عن طريق الوسائط الإلكترونية، وهو فصل يطبق على الجميع دون تمييز، ويمنح لكل مواطن الحق في التظلم إذا ما انتهكت خصوصيته. لكن الوزير لم يتصرف كمجرد مواطن، بل كممثل للسلطة التنفيذية، في مواجهة صوت صحفي ناقد، اختار أن يعبر بحرية عن آرائه… هنا يتضح الخلل: عندما ترفع دعوى باسم الدولة ضد مواطن، في قضية ذات طبيعة شخصية، فنحن لا نكون أمام تطبيق للقانون، بل أمام استعراض للنفوذ وتوجيه للعدالة.
إن القضاء الذي كان من المفروض أن يتحصن خلف مبادئ الاستقلال والحياد، اختار أن يصمت… لم يسائل الشكل، ولم يطرح تساؤلا واحدا حول مدى قانونية استعمال صفة رسمية في ملف شخصي… في ذلك خرق واضح للفصل السادس من الدستور المغربي، الذي ينص على أن الجميع، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمام القانون… فهل الوزير كان متساويا مع المواطن المهداوي في هذه القضية؟ وهل المحكمة تعاملت مع الطرفين على قدم المساواة، أم أن أحدهما دخل القاعة مرتديا عباءة السلطة، وخرج منها مرفوع الرأس بقرار قضائي مسنود بالختم الوزاري؟
وما يزيد من فداحة هذا الانحراف المؤسساتي أن المحكمة حكمت لفائدة الوزير بتعويض مادي قدره 150 مليون سنتيم، لصالحه الشخصي لا لصالح الوزارة، رغم أنه استعمل صفة وزير العدل في شكاية تحمل طابعا شخصيا، بل الأخطر من ذلك أنه لجأ إلى المال العام لتغطية تكاليف التقاضي، ما يشكل بدوره خرقا صارخا للقانون، لأن المال العام ليس وسيلة للانتقام ولا أداة لتصفية الحسابات، بل ملك مشترك يفترض أن يصرف في خدمة الصالح العام، لا في نزاعات تعكس ضيق صدر السلطة تجاه النقد.
إن ما حدث لا يمكن قراءته إلا كتعبير صارخ عن حالة اختلال في التوازن بين السلط، وتواطؤ صريح أو ضمني من المؤسسة القضائية مع السلطة السياسية، حين تتحول الصفة الرسمية إلى وسيلة ضغط، وتوظف مؤسسات الدولة في تصفية الحسابات مع الأقلام المزعجة… إنها لحظة مفصلية في تاريخ العدالة المغربية، تكشف أن الاستقلال المزعوم للقضاء لا يصمد حين يكون الخصم وزيرا، وحين تكون الكلمة الحرة هي المتهم.
إن العدالة، في هذه الحالة، لم تكن عمياء، بل كانت مبصرة جيدا لما على كتفي الوزير من أوسمة، فانحنت بصمت، وأصدرت حكمها لا باسم القانون، بل باسم التوازنات السياسية… والمؤسف أن من يفترض فيه حماية العدالة، هو من جعل منها سيفا في يد السلطة.
Sorry Comments are closed