لا أحد ينكر أن المغرب خطا خطوات مهمة في تحديث ترسانته القانونية لمواكبة التحولات الرقمية، خاصة مع إدخال تعديلات على الفصل 447 وما بعده من القانون الجنائي، الذي جاء ليحمي الحياة الخاصة للأشخاص الطبيعيين من الانتهاكات التي قد تتسبب فيها وسائط التكنولوجيا الحديثة… غير أن الممارسة القضائية على الأرض أفرزت حالات تأويل موسع للنصوص، جعلت الهدف الذي أراده المشرع يتحول في بعض الأحيان إلى نتيجة معاكسة تماما.
أحدث الأمثلة على ذلك، استدعاء الناشط عبد القادر حلوط للمثول أمام المحكمة الابتدائية بوجدة في 18 شتنبر 2025، بناء على شكاية تقدمت بها إحدى الشركات التي اتهمته بـ”التشهير” عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مستندة إلى مقتضيات الفصل 447-2 من القانون الجنائي… الشركة ترى أن منشوراته أضرت بسمعتها التجارية، بينما يرى متتبعون للملف أن القضية تكشف عن سوء تكييف قانوني يثير أكثر من علامة استفهام حول حدود النص وروحه.
فعند العودة إلى نص الفصل 447-2، نجد أن المشرع نص بوضوح على تجريم بث أو توزيع صور أو أقوال أو وقائع كاذبة إذا كان الهدف منها هو المس بالحياة الخاصة للأشخاص أو التشهير بهم… منطق المشرع هنا كان واضحا وصريحا: الحماية موجهة إلى الأشخاص الطبيعيين وخصوصيتهم، وليس إلى الشركات وسمعتها التجارية، لأن هذه الأخيرة بطبيعتها تتحرك في الفضاء العمومي وتقدم منتجات وخدمات تخضع بطبيعتها للنقاش العمومي والانتقاد المشروع.
غير أن الشركة المشتكية اختارت سلوك مسار مغاير… كان بإمكانها التوجه إلى القضاء المدني للمطالبة بالتعويض عن أي ضرر محتمل وفقا للفصلين 77 و78 من قانون الالتزامات والعقود، أو حتى اللجوء إلى القضاء التجاري إذا كان الأمر يتعلق بممارسات تمس المنافسة الشريفة أو الترويج لمعلومات كاذبة حول منتجاتها… لكنها فضلت اللجوء إلى القضاء الزجري، في خطوة تعكس — بحسب متابعين — محاولة لتضييق مساحة النقد العمومي عبر استغلال نصوص قانونية وضعت أصلا لحماية الحياة الخاصة للأفراد.
المثير أكثر في هذه القضية أن النيابة العامة قبلت الشكاية وأحالت الملف على الشرطة القضائية للتحقيق، ومن ثم على غرفة الجنح بالمحكمة الابتدائية بوجدة… هنا يطرح السؤال الجوهري: هل نحن أمام توسيع مفرط في تأويل النص القانوني ليشمل حالات لم يقصدها المشرع أصلا؟ أم أن الأمر يتعلق بثغرة قانونية تركها المشرع دون ضبط، ففتحت الباب أمام توظيف النصوص الجنائية لتصفية نزاعات تجارية أو للضغط على الأصوات المنتقدة؟
الخطير في هذا المسار أن اعتماد المقاربة الزجرية في مثل هذه القضايا قد يؤدي إلى تكميم الأفواه وتقييد حرية التعبير، خصوصا عندما يتعلق الأمر بانتقاد أداء الشركات والمؤسسات التي تقدم خدمات ومنتجات للعموم… فالتشريع المغربي نفسه لا يمنع مناقشة السياسات التجارية أو انتقاد جودة الخدمات، طالما أن ذلك يتم في إطار النقاش العمومي ولا يتضمن وقائع كاذبة ثابتة تمس بأشخاص طبيعيين في حياتهم الخاصة أو شرفهم الشخصي.
قضية الناشط عبد القادر إذا تتجاوز حدود نزاع فردي بينه وبين شركة خاصة، إنها تكشف عن مأزق قانوني وقضائي حقيقي في المغرب: كيف نوازن بين حماية السمعة الفردية وصون حرية التعبير؟ وكيف نمنع استغلال نصوص قانونية وضعت لحماية الأفراد من أجل تكميم الأصوات المنتقدة أو الزج بالناشطين في قفص الاتهام؟
ليس الهدف هنا التشكيك في القضاء المغربي أو النيل من مكانته، وإنما توجيه دعوة إلى قراءة أعمق وأكثر دقة للنصوص القانونية، بما يحافظ على فلسفة التشريع ويحمي مساحات النقاش العمومي من التضييق غير المبرر… فالقانون الجنائي وضع لحماية كرامة الأفراد وخصوصيتهم، لا ليستخدم كدرع حصانة للمؤسسات والشركات في مواجهة النقد، مهما كان قاسيا أو غير مريح.
ربما تكون جلسة 18 شتنبر 2025 لحظة فارقة، ليس فقط للناشط عبد القادر، بل لملف التشهير في المغرب برمته… فالقضية ستختبر مدى قدرة القضاء على التوفيق بين روح النص ومصلحة المجتمع، ومدى استعداده لفتح نقاش أوسع حول حدود الحماية القانونية للأشخاص الطبيعيين، وما إذا كان من المشروع توسيعها لتشمل الأشخاص المعنويين.
في نهاية المطاف، لا شيء أخطر على الديمقراطية من خلط الأوراق بين حماية الحقوق الفردية وتكميم الأفواه، ولا شيء أنبل من قضاء يقرأ النص في سياقه، ويفهم روح المشرع قبل أن يخط الحكم.
Sorry Comments are closed