في زمن تتعالى فيه أصوات التحديث القانوني وربط المسؤولية بالمحاسبة، يجد المتابع نفسه مضطرا للتوقف عند موقف الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، بشأن مشروع قانون المسطرة الجنائية… فقد اختار الرجل الدفاع الصريح عن نص قانوني مثير للجدل، رافضا حتى مجرد مناقشة إمكانية إحالته على المحكمة الدستورية، كما لو أن دستورية القوانين مسألة ثانوية، أو وجهة نظر قابلة للتأجيل.
موقف بايتاس أثار موجة من الانتقادات الحادة داخل الأوساط الحقوقية والسياسية، وصفت من قبل عدد من المتتبعين بمحاولة “تحصين الفساد” عبر آليات تشريعية تقيد من دور المجتمع المدني وتضعف من سلطة الرقابة المؤسساتية… فقد أشار مشروع القانون إلى إقصاء جمعيات المجتمع المدني من التبليغ عن قضايا الفساد، وهو أمر اعتبره كثيرون تراجعا خطيرا عن المكتسبات الدستورية لفاتح يوليوز 2011، لاسيما الفصلين 12 و27 من الدستور، اللذين يكرسان أدوارا محورية للمجتمع المدني وحقه في المعلومة والمشاركة.
الأخطر من ذلك، أن بايتاس لم يقدم مبررا قانونيا موضوعيا لرفضه إحالة المشروع على المحكمة الدستورية، بل اكتفى بتخوفات سياسية، مفادها أن المحكمة قد تسقط بعض مواد المشروع! وهو ما يعني ضمنا أن الحكومة تدرك وجود اختلالات دستورية في النص، لكنها تفضل تمريره بصيغته الحالية، ولو على حساب احترام الوثيقة الدستورية ذاتها.
إن رفض الإحالة على المحكمة الدستورية لا يُمكن قراءته إلا في سياق تنامي النزعة السلطوية داخل الجهاز التنفيذي، وتنامي الميل إلى تقليص أدوار الرقابة الخارجية، سواء كانت من المؤسسة القضائية أو من قبل المجتمع المدني… وهي نزعة تضعف الثقة بين المواطن والدولة، وتقوّض أسس دولة الحق والقانون التي بشر بها الدستور.
لقد أصبحت المعارك الدستورية في المغرب تخاض أحيانا داخل اللجان، وتحسم بالرغبة السياسية بدل الحجة القانونية… وبدل أن يكون الدستور حكما فوق الجميع، بات يؤول ويلتف عليه بحيل تشريعية تراد لها أن تمر بهدوء.
ما يجب أن يقال اليوم بوضوح هو أن احترام الدستور ليس خيارا سياسيا، بل هو التزام قانوني وأخلاقي يجب أن يطبق، خاصة من قبل أولئك الذين يمثلون الحكومة ويتحدثون باسمها… وإذا ما استمر هذا النوع من “الهروب من الدستور”، فإننا سنجد أنفسنا أمام تشريعات تصاغ لحماية السلطة من المجتمع، لا لحماية المجتمع من التعسف.
ولأن العدالة الجنائية ليست شأنا تقنيا فحسب، بل هي مرآة لقيم الدولة واختياراتها، فإن التراجع عن المبادئ الدستورية باسم “التقدير الحكومي” هو أمر مرفوض، ويجب التصدي له بكل الوسائل القانونية والمؤسساتية المتاحة.
فهل نعيش زمنا يراد فيه تحويل الدستور من وثيقة مرجعية ملزمة، إلى إعلان نوايا تعلق بنصوص قوانين تخاطب السلطة وتقصي المجتمع؟ أم أن الرأي العام لا يزال يملك القدرة على كبح هذا المنحى الخطير؟
Sorry Comments are closed