في خطوة إنسانية نادرة، سمح للمعتقل السياسي ناصر الزفزافي بمغادرة زنزانته بسجن طنجة، والسفر إلى الحسيمة لزيارة والده الذي يرقد في المستشفى متأثرا بمضاعفات مرض السرطان… هذه الالتفاتة، وإن بدت في ظاهرها إجراء إنسانيا عابرا، فإنها تحمل في طياتها إشارات سياسية لا يمكن تجاهلها، وتبعث برسائل ضمنية عن احتمال حدوث انفراج تدريجي في ملف حراك الريف، أحد أعقد الملفات الحقوقية في المغرب خلال العقد الأخير.
الصحفي توفيق بوعشرين، الذي عاش تجربة الاعتقال السياسي لسنوات، وصف هذه الخطوة بكونها إشارة قوية صادرة من “الطائرة السياسية” للدولة التي بدأت تنزل تدريجيا، في إشارة رمزية إلى مقاربة حذرة في معالجة الملفات الحساسة… فكما تبدأ طائرة الركاب نزولها من على بعد آلاف الأمتار لتفادي الصدمة، تسير الدولة بخطى بطيئة نحو معالجة تراكمات حقوقية أثارت جدلا واسعا في الداخل والخارج.
هذه الإشارة لم تكن معزولة، فقد سبقتها مراجعة قضائية همّت ملف النقيب محمد زيان، بتقليص الحكم الصادر في حقه من خمس سنوات إلى ثلاث، في خطوة وصفت أيضا بأنها سياسية بلبوس قانوني… والمؤشر المشترك بين الحالتين، هو اقتراب ساعة الإفراج، إن لم يكن بعفو ملكي، فربما بانقضاء المدة أو بتسوية جديدة ترتبها الدولة ضمن أجندة أشمل.
غير أن المراقبين يدركون أن التحولات في السياسة المغربية لا تتم تحت ضغط الأصوات المرتفعة أو الحملات الحقوقية فقط، بل تدار غالبا من دوائر مغلقة، تراعي التوازنات الداخلية والدولية… كما أن غياب العاهل المغربي عن الساحة، ولو لفترة قصيرة بسبب المرض، يربك إيقاع اتخاذ القرار، في نظام سياسي يتمحور فيه مركز الثقل حول شخص الملك، لا فقط كمصادق على القرار، بل كصانع له.
أما مؤسسات الوساطة، فقد أصبحت، وفق بوعشرين، خارج اللعبة… فالمجلس الوطني لحقوق الإنسان فقد تأثيره، والمندوبية الوزارية تفرغت للرد على التقارير الدولية، فيما صارت وزارة العدل منشغلة بسجالات سطحية لا تلامس جوهر السياسة الجنائية…. أما منظمات المجتمع المدني، باستثناء بعض الأصوات القليلة مثل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، فهي شبه غائبة عن المشهد.
وفي المقابل، باتت مواقع التواصل الاجتماعي تؤدي دور الرأي العام الحي، وتفرض معادلات جديدة بين الدولة والمجتمع، من خلال الضغط، والتعبير، وصياغة الأسئلة التي تؤرق السلطة… فكلما تململ الشارع، أو عبر عن غضب مشروع، أعادت الدولة النظر، ولو جزئيا، في مقارباتها.
الفرق الجوهري هنا، كما يوضح بوعشرين، هو الفرق بين العقل السياسي والعقل الأمني… فالأول ينظر إلى المستقبل بعقلانية ومراهنة على التفاوض، بينما الثاني يسعى إلى الضبط والسيطرة، ولو على حساب الحلول المستدامة.
ختاما، يبدو أن “الطائرة السياسية” قد بدأت بالفعل في الهبوط البطيء، تمهيدا لمرحلة جديدة قد تحمل بعض الانفراج… غير أن السؤال الذي يبقى مفتوحا هو: هل ستستثمر هذه اللحظة لبناء عرض سياسي متجدد يُعيد الثقة في المؤسسات، ويؤسس لمصالحة عميقة مع القضايا الحقوقية العالقة؟ أم أننا أمام فصل عابر في رواية طويلة من التأجيل والتردد؟
الجواب ستكشفه سرعة الهبوط … ومكان الهبوط أيضا.
Sorry Comments are closed