ليست الحكاية عن أرملة عادت إلى بيتها وهي تحمل صندوقا خشبيا ثقيلا… ليست الحكاية عن قميص عسكري تفوح منه رائحة غائبة، ولا عن صورتين لطفلين ينظران إلى أبيهما المعلق على جدار. الحكاية أكبر من ذلك، أعمق من دمعة، وأشد وجعا من أي نحيب.
حين يسقط الشهيد، يكتب الوطن في نشرة الأخبار سطرا قصيرا: “استشهد البطل في ساحة الشرف”… ثم يطوى الملف كما تطوى الأعلام في احتفالات البروتوكول… لكن الحقيقة أن استشهاده ليس نهاية القصة، بل بدايتها… فمنذ لحظة تسليم الصندوق، تبدأ حرب أخرى… حرب الصمت، الإهمال، والنسيان.
الأرملة التي كانت تحمل في قلبها حلما صغيرا بعودة زوجها، وجدت نفسها فجأة تحمل ثقل وطن قرر أن مهمته انتهت بمجرد تسليمها قطعة خشب… لم يعد أحد يسأل عن أحوالها، ولا عن طفليها اللذين ينموان في ظل فراغ قاس، يتعلمون مبكرا أن البطولة قد تكون تذكرة سفر إلى العدم.
الأقسى من غياب الزوج، هو ذلك البرود الاجتماعي الذي يتسلل مع مرور الأيام… يصبح الشهيد قصة ماضية، وتتحول عائلته إلى “ملف منتهي الصلاحية”… حتى البيت الذي شهد دموع الانتظار يصبح مشروع تجديد، وحتى ملابس الشهيد تعتبر “متعلقات لا جدوى منها”.
هذه ليست مجرد مأساة عاطفية، بل جريمة صامتة في حق الذاكرة الجماعية… حين ينسى الوطن شهداءه، فإنه يعلن بشكل غير مباشر أن التضحية بلا مقابل، وأن الموت من أجل الأرض قد يكون مجرد خسارة شخصية لا معنى لها في ميزان السياسة.
البقايا الحقيقية للشهيد ليست في الصندوق، ولا في القميص، بل في ذلك الجرح الذي لا يلتئم في قلب أسرته، وفي تلك المسافة الباردة بين الشعارات الوطنية والواقع المرير… وإذا لم نتعلم أن نصون بقاياهم في وجداننا، فسيأتي يوم نصبح نحن جميعا مجرد أشياء تركت في زاوية مهملة.
Sorry Comments are closed