في زمن اختلطت فيه مفاهيم الوطنية بالمصلحة، والوعي بالتملق، بات الحديث عن المال العام أشبه بالمشي في حقل ألغام، لا لأن الفساد غير مرئي، بل لأن هناك من يصنع له غطاء سميكا من التبرير والتطبيل.
وإذا أردنا نموذجا صارخا لما نعنيه، فلننظر إلى مشروع مارتشيكا بإقليم الناظور، الذي التهم أكثر من 2600 مليار سنتيم، دون أن يرى المواطن العادي من تلك الأموال ما يتناسب مع حجم الضجة والوعود… المشروع الذي كان من المفترض أن يكون رافعة تنموية للمنطقة، تحول إلى واجهة براقة تخفي خلفها خيبات كبيرة وأسئلة كثيرة.
لكن، بدل أن يسلط الضوء على من يديرون المشروع وكيف تصرف الأموال، نجد جوقة من المطبلين (النكافات) تتصدر المشهد: يشيدون بالمشروع وكأنه فتح عمراني غير مسبوق، ويهاجمون بحدة كل من تجرأ على طرح سؤال بسيط: أين ذهبت المليارات؟
لقد أصبح بعض المنتسبين زيفا إلى “النخبة” يدافعون عن المشاريع الفاشلة كما لو أنها مشاريعهم الشخصية… لا يزعجهم الهدر، بقدر ما يزعجهم أن يفضح الهدر… همهم ليس المال العام، بل الحفاظ على مصالحهم، أو قربهم من دائرة النفوذ.
وهنا مربط الفرس: المشكلة لم تعد في ناهبي المال العام فقط، بل في من يصنعون لهم الشرعية بالصوت والصورة، بالكلمة والموقف، بالتبرير والتشكيك في كل من يخالفهم… هؤلاء المطبلون هم خط الدفاع الأول عن الفساد، بل هم وقوده وأكسجينه.
ففي مشروع مارتشيكا، كما في غيره، لم يجرؤ الكثيرون على قول الحقيقة… ليس لأنهم لا يرون، بل لأنهم اختاروا أن يصمتوا أو يبرروا، خوفا أو طمعا أو تملقا… والمؤسف أن بعضهم يهاجم المنتقدين بدل أن يطالب بالتحقيق في أوجه صرف الميزانيات أو محاسبة المسؤولين.
إن حماية المال العام لا تبدأ من القوانين فقط، بل من خلق ثقافة مجتمعية تعلي من قيمة الشفافية والمساءلة، وتفضح النفاق، وترفض أن تتحول “الإنجازات” إلى أصنام تعبد.
المال العام، في حقيقته، أمانة… والخيانة لا تكون فقط بسرقته، بل بالصمت عن سرقته، أو الدفاع عمن ينهبونه… ولهذا، فإن الخوف على المال العام ليس من ناهبيه، فهم معروفون ومسؤوليتهم ثابتة، بل من الذين يزينون لهم الفعل ويطاردون كل من يرفع صوته بالسؤال… هؤلاء هم الخطر الحقيقي، وهم من يجب أن يكسر صمتهم قبل أن تستنزف البلاد أكثر.
Sorry Comments are closed